فصل: الفصل الحادي عشر في مانع العدة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 الفصل الحادي عشر في مانع العدة‏.‏

-واتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة كانت عدة حيض أو عدة حمل أو عدة أشهر‏.‏ واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها، فقال مالك والأوزاعي والليث‏:‏ يفرق بينهما ولا تحل له أبدا؛ وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري‏:‏ يفرق بينهما، وإذا انقضت العدة بينهما فلا بأس في تزويجه إياها مرة ثانية‏.‏ وسبب اختلافهم هل قول الصاحب حجة أم ليس بحجة‏؟‏ وذلك أن مالكا روى عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن عمر ابن الخطاب فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشدا الثقفي لما تزوجها في العدة من زوج ثان وقال‏:‏ أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدا‏.‏ قال سعيد‏:‏ ولها مهرها بما استحل منها‏.‏ وربما عضدوا هذا القياس بقياس شبه ضعيف مختلف في أصله، وهو أنه أدخل في النسب شبهة فأشبه الملاعن‏.‏ وروي عن علي وابن مسعود مخالفة عمر في هذا‏.‏ والأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم على ذلك دليل من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة‏.‏ وفي بعض الروايات أن عمر كان قضى بتحريمها، وكون المهر في بيت المال، فلما بلغ ذلك عليا أنكره فرجع عن ذلك عمر، وجعل الصداق على الزوج ولم يقض بتحريمها عليه، رواه الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق‏.‏ وأما من قال بتحريمها بالعقد فهو ضعيف‏.‏ وأجمعوا على أنه لا توطأ حامل مسبية حتى تضع، لتواتر الأخبار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واختلفوا إن وطيء هل يعتق عليه الولد أو لا يعتق، والجمهور على أنه لا يعتق‏.‏ وسبب اختلافهم هل ماؤه مؤثر في خلقته أو غير مؤثر‏؟‏ فإن قلنا أنه مؤثر كان له ابنا بجهة ما، وإن قلنا أنه ليس بمؤثر لم يكن ذلك‏.‏ وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏كيف يستعبده وقد غذاه في سمعه وبصره‏"‏‏.‏ وأما النظر في مانع التطليق ثلاثا، فسيأتي في كتاب الطلاق‏.‏

 الفصل الثاني عشر في مانع الزوجية‏.‏

-وأما مانع الزوجية فإنهم اتفقوا على أن الزوجية بين المسلمين مانعة وبين الذميين‏.‏ واختلفوا في المسبية على ما تقدم؛ واختلفوا أيضا في الأمة إذا بيعت هل يكون بيعها طلاقا‏؟‏ فالجمهور على أنه ليس بطلاق؛ وقال قوم‏:‏ هو طلاق، وهو مروي عن ابن عباس وجابر وابن مسعود وأبي بن كعب‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة مفهوم حديث بريرة لعموم قوله تعالى ‏{‏إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ وذلك أن قوله تعالى ‏{‏إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ يقتضي المسبيات وغيرهن، وتخيير بريرة يوجب أن لا يكون بيعها طلاقا، لأنه لو كان بيعها طلاقا لما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العتق، ولكان نفس شراء عائشة لها طلاقا من زوجها؛ والحجة للجمهور ما خرجه ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية فأصابوا حيا من العرب يوم أوطاس فهزموهم وقتلوهم وأصابوا نساء لهن أزواج، وكان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن، فأنزل الله عز وجل ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ وهذه المسألة هي أليق بكتاب الطلاق‏.‏ فهذه هي جملة الأشياء المصححة للأنكحة في الإسلام، وهي كما قلنا راجعة إلى ثلاثة أجناس‏:‏ صفة العاقد والمعقود عليها، وصفة العقد، وصفة الشروط في العقد‏.‏ وأما الأنكحة التي انعقدت قبل الإسلام ثم طرأ عليها الإسلام، فإنهم اتفقوا على أن الإسلام إذا كان منهما معا‏:‏ أعني من الزوج والزوجة، وقد كان عقد النكاح على من يصح ابتداء العقد عليها في الإسلام أن الإسلام يصحح ذلك؛ واختلفوا في موضعين‏:‏ أحدهما إذا انعقد النكاح على أكثر من أربع أو على من لا يجوز الجمع بينهما في الإسلام‏.‏ والموضع الثاني إذا أسلم أحدهما قبل الآخر‏.‏

-‏(‏فأما المسألة الأولى‏)‏ وهي إذا أسلم الكافر وعنده أكثر من أربع نسوة أو أسلم وعنده أختان، فإن مالكا قال‏:‏ يختار منهن أربعا ومن الأختين واحدة أيتهما شاء، وبه قال الشافعي وأحمد وداود؛ وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى‏:‏ يختار الأوائل منهن في العقد، فإن تزوجهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن؛ وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك‏:‏ إذا أسلم وعنده أختان فارقهما جميعا ثم استأنف نكاح أيتهما شاء، ولم يقل بذلك أحد من أصحاب مالك غيره‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر، وذلك أنه ورد في ذلك أثران‏:‏ أحدهما مرسل مالك ‏"‏أن غيلان بن سلامة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة أسلمن معه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا‏"‏ والحديث الثاني حديث قيس بن الحارث أنه أسلم على الأختين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إختر أيتهما شئت‏"‏‏.‏ وأما القياس المخالف لهذا الأثر فتشبيه العقد على الأواخر قبل الإسلام بالعقد عليهن بعد الإسلام‏:‏ أعني أنه كما أن العقد عليهن فاسد في الإسلام كذلك قبل الإسلام وفيه ضعف‏.‏ وأما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر، وهي المسألة الثانية ثم أسلم الآخر، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي‏:‏ إنه إذا أسلمت المرأة قبله فإنه إن أسلم في عدتها كان أحق بها وإن أسلم هو وهي كتابية فنكاحها ثابت لما ورد في ذلك من حديث صفوان بن أمية، وذلك ‏"‏أن زوجه عاتكة ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبله، ثم أسلم هو فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه‏"‏ قالوا‏:‏ وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها‏.‏ وأما إذا أسلم الزوج قبل إسلام المرأة فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك‏:‏ إذا أسلم الزوج قبل المرأة وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فأبت؛ وقال الشافعي‏:‏ سواء أسلم الرجل قبل المرأة أو المرأة قبل الرجل إذا وقع الإسلام المتأخر في العدة ثبت النكاح‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العموم للأثر والقياس، وذلك أن عموم قوله تعالى ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ يقتضي المفارقة على الفور‏.‏ وأما الأثر المعارض لمقتضى هذا العموم فما روي من أن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، فأخذت بلحيته وقالت‏:‏ اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرا على نكاحهما‏.‏ وأما القياس المعارض للأثر فلأنه يظهر أنه لا فرق بين أن تسلم هي قبله أو هو قبلها، فإن كانت العدة معتبرة في إسلامها قبل فقد يجب أن تعتبر في إسلامه أيضا قبل‏.‏

 الباب الثالث في موجبات الخيار في النكاح‏.‏

-وموجبات الخيار أربعة‏:‏ العيوب، والإعسار بالصداق أو بالنفقة والكسوة، والثالث‏:‏ الفقد‏:‏ أعني فقد الزوج‏.‏ والرابع‏:‏ العتق للأمة المزوجة فينعقد في هذا الباب أربعة فصول‏:‏

 الفصل الأول في خيار العيوب‏.‏

-اختلف العلماء في موجب الخيار بالعيوب لكل واحد من الزوجين، وذلك في موضعين‏:‏ أحدهما هل يرد بالعيوب أو لا يرد‏؟‏‏.‏ والمرضع الثاني إذا قلنا إنه يرد فمن أيها يرد، وما حكم ذلك‏؟‏‏.‏ فأما الموضع الأول فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا‏:‏ العيوب توجب الخيار في الرد أو الإمساك‏:‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ لا توجب خيار الرد والإمساك، وهو قول عمر بن عبد العزيز‏:‏ وسبب اختلافهم شيئان‏:‏ أحدهما هل قول الصاحب حجة، والآخر قياس النكاح في ذلك على البيع‏؟‏ فأما قول الصاحب الوارد في ذلك فهو ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص وفي بعض الروايات‏:‏ أو قرن فلها صداقها كاملا وذلك غرم لزوجها على وليها‏.‏ وأما القياس على البيع فإن القائلين بموجب الخيار للعيب في النكاح قالوا‏:‏ النكاح في ذلك شبيه بالبيع؛ وقال المخالفون لهم‏:‏ ليس شبيها بالبيع لاجتماع المسلمين على أنه لا يرد النكاح بكل عيب ويرد به البيع‏.‏ وأما الموضع الثاني في الرد بالعيوب فإنهم اختلفوا في أي العيوب يرد بها وفي أيها لا يرد وفي حكم الرد، فاتفق مالك والشافعي على أن الرد يكون من أربعة عيوب‏:‏ الجنون والجذام والبرص وداء الفرج الذي يمنع الوطء، إما قرن أو رتق في المرأة أو عنة في الرجل أو خصاء‏.‏ واختلف أصحاب مالك في أربع‏:‏ في السواد والقرع وبخر الفرج وبخر الفم، فقيل ترد بها، وقيل لا ترد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري‏:‏ لا ترد المرأة في النكاح إلا بعيبين فقط‏:‏ القرن والرتق‏.‏ فأما أحكام الرد فإن القائلين بالرد اتفقوا على أن الزوج إذا علم بالعيب قبل الدخول طلق ولا شيء عليه‏.‏ واختلفوا إن علم بعد الدخول والمسيس؛ فقال مالك‏:‏ إن كان وليها الذي زوجها ممن يظن به لقربه منها أنه عالم بالعيب مثل الأب والأخ فهو غار يرجع عليه الزوج بالصداق وليس يرجع على المرأة بشيء وإن كان بعيدا رجع الزوج على المرأة بالصداق كله إلا ربع دينار فقط‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن دخل لزمه الصداق كله بالمسيس ولا رجوع له عليها ولا على ولي‏.‏ وسبب اختلافهم تردد تشبيه النكاح بالبيع أو بالنكاح الفاسد الذي وقع فيه المسيس، أعني اتفاقهم على وجوب المهر في الأنكحة الفاسدة بنفس المسيس، لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أيما امرأة نكحت بغير إذن سيدها فنكاحها باطل ولها المهر بما استحل منها‏"‏ فكان موضع الخلاف تردد هذا الفسخ بين حكم الرد بالعيب في البيوع، وبين حكم الأنكحة المفسوخة‏:‏ أعني بعد الدخول؛ واتفق الذين قالوا بفسخ نكاح العنين أنه لا يفسخ حتى يؤجل سنة يخلى بينه وبينها بغير عائق‏.‏ واختلف أصحاب مالك في العلة التي من أجلها قصر الرد على هذه العيوب الأربعة‏.‏ فقيل لأن ذلك شرع غير معلل؛ وقيل لأن ذلك مما يخفى، ومحمل سائر العيوب على أنها مما لا تخفى؛ وقيل لأنها يخاف سرايتها إلى الأبناء، وعلى هذا التعليل يرد بالسواد والقرع، وعلى الأول يرد بكل عيب إذا علم أنه مما خفي على الزوج‏.‏

 الفصل الثاني في خيار الإعسار بالصداق والنفقة‏.‏

-واختلفوا في الإعسار بالصداق، فكان الشافعي يقول‏:‏ تخير إذا لم يدخل بها، وبه قال مالك‏.‏ واختلف أصحابه في قدر التلوم له؛ فقيل ليس له في ذلك حد؛ وقيل سنة؛ وقيل سنتين؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ هي غريم من الغرماء لا يفرق بينهما ويؤخذ بالنفقة، ولها أن تمنع نفسها حتى يعطيها المهر‏.‏ وسبب اختلافهم تغليب شبه النكاح في ذلك بالبيع أو تغليب الضرر اللاحق للمرأة في ذلك من عدم الوطء تشبيها بالإيلاء والعنة‏.‏ وأما الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وجماعة‏:‏ يفرق بينهما، وهو مروي عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب؛ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ لا يفرق بينهما، وبه قال أهل الظاهر‏.‏ وسبب اختلافهم تشبيه الضرر الواقع من ذلك بالضرر الواقع من العنة، لأن الجمهور على القول بالتطليق على العنين حتى لقد قال ابن المنذر إنه إجماع، وربما قالوا النفقة في مقابلة الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور، فإذا لم يجد النفقة سقط الاستمتاع فوجب الخيار‏.‏ وأما من لا يرى القياس فإنهم قالوا قد ثبتت العصمة بالإجماع فلا تنحل إلا بإجماع أو بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه فسبب اختلافهم معارضة استصحاب الحال للقياس‏.‏

 الفصل الثالث في خيار الفقد‏.‏

-واختلفوا في المفقود الذي تجهل حياته أو موته في أرض الإسلام، فقال مالك يضرب لامرأته أجل أربع سنين من يوم ترفع أمرها إلى الحاكم، فإذا انتهى الكشف عن حياته أو موته فجهل ذلك ضرب لها الحاكم الأجل، فإذا انتهى اعتدت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وحلت، قال‏:‏ وأما ماله فلا يورث حتى يأتي عليه من الزمان ما يعلم أن المفقود لا يعيش إلى مثله غالبا، فقيل سبعون، وقيل ثمانون، وقيل تسعون، وقيل مائة فيمن غاب وهو دون هذه الأسنان، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وهو مروي أيضا عن عثمان وبه قال الليث؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري‏:‏ لا تحل امرأة المفقود حتى يصح موته، وقولهم مروي عن علي وابن مسعود‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة استصحاب الحال للقياس، وذلك أن استصحاب الحال يوجب أن لا تنحل عصمة إلا بموت أو طلاق حتى يدل الدليل على غير ذلك‏.‏ وأما القياس فهو تشبيه الضرر اللاحق لها من غيبته بالإيلاء والعنة، فيكون لها الخيار كما يكون في هذين‏.‏ والمفقودون عند المحصلين من أصحاب مالك أربعة مفقود في أرض الإسلام وقع الخلاف فيه، ومفقود في أرض الحرب، ومفقود في حروب الإسلام، أعني فيما بينهم ومفقود في حروب الكفار، والخلاف عن مالك وعن أصحابه في الثلاثة الأصناف من المفقودين كثير؛ فأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه عندهم حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يصح موته، ما خلا أشهب، فإنه حكم له بحكم المفقود في أرض المسلمين‏.‏ وأما المفقود في حروب المسلمين فقال‏:‏ إن حكمه حكم المقتول دون تلوم، وقيل يتلوم له بحسب بعد الموضع الذي كانت فيه المعركة وقربه وأقصى الأجل في ذلك سنة‏.‏ وأما المفقود في حروب الكفار ففيه في المذهب أربعة أقوال‏:‏ قيل حكمه حكم الأسير؛ وقيل حكمه حكم المقتول بعد تلوم سنة، إلا أن يكون بموضع لا يخفى أمره فيحكم له بحكم المفقود في حروب المسلمين وفتنهم؛ والقول الثالث أن حكمه حكم المفقود في بلاد المسلمين؛ والرابع حكمه حكم المقتول في زوجته، وحكم المفقود في أرض المسلمين في ماله أعني يعمر وحينئذ يورث، وهذه الأقاويل كلها مبناها على تجويز النظر بحسب الأصلح في الشرع، وهو الذي يعرف بالقياس المرسل، وبين العلماء فيه اختلاف‏:‏ أعني بين القائلين بالقياس‏.‏

 الفصل الرابع في خيار العتق‏.‏

-واتفقوا على أن الأمة إذا عتقت تحت عبد أن لها الخيار؛ واختلفوا إذا عتقت تحت الحر هل لها خيار أم لا‏؟‏ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة والأوزاعي وأحمد والليث لا خيار لها؛ وقال أبو حنيفة والثوري لها الخيار حرا كان أو عبدا‏.‏ وسبب اختلافهم تعارض النقل في حديث بريرة، واحتمال العلة الموجبة للخيار أن يكون الجبر الذي كان في إنكاحها بإطلاق إذا كانت أمة، أو الجبر على تزويجها من عبد؛ فمن قال‏:‏ العلة الجبر على النكاح بإطلاق قال‏:‏ تخير تحت الحر والعبد؛ ومن قال الجبر على تزويج العبد فقط قال‏:‏ تخير تحت العبد فقط‏.‏ وأما اختلاف النقل فإنه روي عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود‏.‏ وروي عن عائشة أن زوجها كان حرا، وكلا النقلين ثابت عند أصحاب الحديث؛ واختلفوا أيضا في الوقت الذي يكون لها الخيار فيه، فقال مالك والشافعي‏:‏ يكون لها الخيار ما لم يمسها؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ خيارها على المجلس؛ وقال الأوزاعي‏:‏ إنما يسقط خيارها بالمسيس إذا علمت أن المسيس يسقط خيارها‏.‏

 الباب الرابع في حقوق الزوجية‏.‏

-واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج النفقة والكسوة لقوله تعالى ‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏}‏ الآية‏.‏ ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏ ولقوله لهند ‏"‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏"‏‏.‏ فأما النفقة فاتفقوا على وجوبها، واختلفوا في أربعة مواضع في وقت وجوبها، ومقدارها، ولمن تجب‏؟‏، وعلى من تجب‏؟‏‏.‏ فأما وقت وجوبها فإن مالكا قال‏:‏ لا تجب النفقة على الزوج حتى يدخل بها أو يدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ؛ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ يلزم غير البالغ النفقة إذا كانت هي بالغا، وأما إذا هو بالغا والزوجة صغيرة فللشافعي قولان‏:‏ أحدهما مثل قول مالك، والقول الثاني أن لها النفقة بإطلاق‏.‏ وسبب اختلافهم هل النفقة لمكان الاستمتاع أو لمكان أنها محبوسة على الزوج كالغائب والمريض‏.‏ وأما مقدار النفقة فذهب مالك إلى أنها غير مقدرة بالشرع وأن ذلك راجع إلى ما يقتضيه حال الزوج وحال الزوجة، وأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال، وبه قال أبو حنيفة؛ وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة، فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد‏.‏ وسبب اختلافهم تردد حمل النفقة في هذا الباب على الإطعام في الكفارة أو على الكسوة، وذلك أنهم اتفقوا أن الكسوة غير محدودة وأن الإطعام محدود‏.‏ واختلفوا من هذا الباب في هل يجب على الزوج نفقة خادم الزوجة‏؟‏ وإن وجبت فكم يجب‏؟‏ والجمهور على أن على الزوج النفقة لخادم الزوجة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها؛ وقيل بل على الزوجة خدمة البيت؛ واختلف الذين أوجبوا النفقة على خادم الزوجة على كم تجب نفقته‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ ينفق على خادم واحدة، وقيل على خادمين إذا كانت المرأة ممن لا يخدمها إلا خادمان وبه قال مالك وأبو ثور‏.‏ ولست أعرف دليلا شرعيا لإيجاب النفقة على الخادم إلا تشبيه الإخدام بالإسكان، فإنهم اتفقوا على أن الإسكان على الزوج للنص الوارد في وجوبه للمطلقة الرجعية‏.‏ وأما لمن تجب النفقة فإنهم اتفقوا على أنها تجب للحرة الغير ناشز‏.‏ واختلفوا في الناشز والأمة‏.‏ فأما الناشز فالجمهور على أنها لا تجب لها نفقة، وشذ قوم فقالوا تجب لها النفقة‏.‏ وسبب الخلاف معارضة العموم للمفهوم، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏ يقتضي أن الناشز، وغير الناشز في ذلك سواء، والمفهوم من أن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع يوجب أن لا نفقة للناشز‏.‏ وأما الأمة فاختلف فيها أصحاب مالك اختلافا كثيرا، فقيل لها النفقة كالحرة، وهو المشهور؛ وقيل لا نفقة لها وقيل أيضا إن كانت تأتيه فلها النفقة، وإن كان يأتيها فلا نفقة لها؛ وقيل لها النفقة في الوقت التي تأتيه؛ وقيل إن كان الزوج حرا فعليه النفقة، وإن كان عبدا فلا نفقة عليه‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العموم للقياس، وذلك أن العموم يقتضي لها وجوب النفقة، والقياس يقتضي أن لا نفقة لها إلا على سيدها الذي يستخدمها، أو تكون النفقة بينهما لأن كل واحد منهما ينتفع بها ضربا من الانتفاع، ولذلك قال قوم‏:‏ عليه النفقة في اليوم الذي تأتيه‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ يحكم على مولى الأمة المزوجة أن تأتي زوجها في كل أربعة أيام‏.‏ وأما على من تجب، فاتفقوا أيضا أنها تجب على الزوج الحر الحاضر؛ واختلفوا في العبد والغائب‏.‏ فأما العبد فقال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن على العبد نفقة زوجته؛ وقال أبو المصعب من أصحاب مالك‏:‏ لا نفقة عليه‏.‏

وسبب الخلاف معارضة العموم لكون العبد محجورا عليه في ماله‏.‏ وأما الغائب فالجمهور على وجوب النفقة عليه؛ وقال أبو حنيفة؛ لا تجب إلا بإيجاب السلطان‏.‏ وإنما اختلفوا فيمن القول قوله إذا اختلفوا في الإنفاق، وسيأتي ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله‏.‏ وكذلك اتفقوا على أن من حقوق الزوجات العدل بينهن في القسم لما ثبت من قسمه صلى الله عليه وسلم بين أزواجه ولقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إذا كان للرجل امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل‏"‏ ولما ثبت ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد السفر أقرع بينهن‏"‏ واختلفوا في مقام الزوج عند البكر والثيب وهل يحتسب به أو لا يحتسب إذا كانت له زوجة أخرى‏؟‏ فقال مالك والشافعي وأصحابهما‏:‏ يقيم عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا، ولا يحتسب إذا كان له امرأة أخرى بأيام التي تزوج؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ الإقامة عندهن سواء بكرا كانت أو ثيبا، ويحتسب بالإقامة عندها إن كانت له زوجة أخرى‏.‏

وسبب اختلافهم معارضة حديث أنس لحديث أم سلمة، وحديث أنس هو ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا‏"‏ وحديث أم سلمة هو ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها فأصبحت عنده فقال‏:‏ ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت فقالت‏:‏ ثلث‏"‏ وحديث أم سلمة هو مدني متفق عليه خرجه مالك والبخاري ومسلم، وحديث أنس حديث بصري خرجه أبو داود، فصار أهل المدينة إلى ما خرجه أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى ما خرجه أهل المدينة‏.‏

واختلف أصحاب مالك في هل مقامه عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا واجب أو مستحب‏؟‏ فقال ابن القاسم‏:‏ هو واجب؛ وقال ابن عبد الحكم‏:‏ يستحب‏.‏ وسبب الخلاف حمل فعله عليه الصلاة والسلام على الندب أو على الوجوب‏.‏ وأما حقوق الزوج على الزوجة بالرضاع وخدمة البيت على اختلاف بينهم في ذلك، وذلك أن قوما أوجبوا عليها الرضاع على الإطلاق؛ وقوم لم يوجبوا ذلك عليها بإطلاق وقوم أوجبوا ذلك على الدنيئة ولم يوجبوا ذلك على الشريفة، إلا أن يكون الطفل لا يقبل إلا ثديها، وهو مشهور قول مالك‏.‏ وسبب اختلافهم هل آية الرضاع متضمنة حكم الرضاع‏:‏ أعني إيجابه، أو متضمنة أمره فقط‏؟‏ فمن قال أمره قال‏:‏ لا يجب عليها الرضاع إذ لا دليل هنا على الوجوب؛ ومن قال تتضمن الأمر بالرضاع وإيجابه وأنها من الأخبار التي مفهومها مفهوم الأمر قال‏:‏ يجب عليها الإرضاع‏.‏ وأما من فرق بين الدنيئة والشريفة فاعتبر في ذلك العرف والعادة‏.‏ وأما المطلقة فلا رضاع عليها إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فعليها الإرضاع وعلى الزوج أجر الرضاع، هذا إجماع لقوله سبحانه وتعالى ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏}‏ ‏(‏والجمهور على أن الحضانة للأم إذا طلقها الزوج وكان الولد صغيرا لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة‏"‏ ولأن الأمة والمسبية إذا لم يفرق بينها وبين ولدها فأخص بذلك الحرة‏.‏ واختلفوا إذا بلغ الولد حد التمييز فقال قوم يخير، ومنهم الشافعي، واحتجوا بأثر ورد في ذلك؛ وبقي قوم على الأصل لأنه لم يصح عندهم هذا الحديث؛ والجمهور على أن تزويجها لغير الأب يقطع الحضانة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏أنت أحق به ما لم تنكحي‏"‏ ومن لم يصح عنده هذا الحديث طرد الأصل‏.‏ وأما نقل الحضانة من الأم إلى غير الأب فليس في ذلك شيء يعتمد عليه‏)‏‏.‏ ‏(‏ما بين القوسين لم يوجد في النسخة الفاسية ولا المصرية، وهو موجود بالنسخة الخطية تعلق أحمد بك تيمور ا هـ مصححه‏)‏‏.‏

 الباب الخامس في الأنكحة المنهي عنها بالشرع والأنكحة الفاسدة وحكمها‏.‏

-والأنكحة التي ورد النهي عنها فيها مصرحا أربعة‏:‏ نكاح الشغار، ونكاح المتعة، والخطبة على خطبة أخيه، ونكاح المحلل‏.‏ فأما نكاح الشغار فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلا آخر على أن ينكحه الآخر وليته ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز لثبوت النهي عنه؛ واختلفوا إذا وقع هل يصحح بمهر المثل أم لا‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا يصحح ويفسخ أبدا قبل الدخول وبعده، وبه قال الشافعي إلا أنه قال‏:‏ إن سمى لإحدهما صداقا أو لهما معا فالنكاح ثابت بمهر المثل، والمهر الذي سمياه فاسد؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ نكاح الشغار يصح بفرض صداق المثل، وبه قال الليث وأحمد وإسحق وأبو ثور والطبري‏.‏ وسبب اختلافهم هل النهي المعلق بذلك معلل بعدم العوض أو غير معلل، فإن قلنا غير معلل لزم الفسخ على الإطلاق؛ وإن قلنا العلة عدم الصداق صح بفرض صداق المثل مثل العقد على خمر أو على خنزير؛ وقد أجمعوا على أن النكاح المنعقد على الخمر والخنزير لا يفسخ إذا فات بالدخول، ويكون فيه مهر المثل؛ وكأن مالكا رضي الله عنه رأى أن الصداق وإن لم يكن من شرط صحة العقد ففساد العقد ههنا من قبل فساد الصداق مخصوص لتعلق النهي به، أو رأى أن النهي إنما يتعلق بنفس تعيين العقد، والنهي يدل على فساد المنهي‏.‏

وأما نكاح المتعة‏.‏ فإنه وإن تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم، ففي بعض الروايات أنه حرمها يوم خيبر، وفي بعضها يوم الفتح، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء، وفي بعضها في عام أوطاس، وأكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها، واشتهر عن ابن عباس تحليلها، وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن، ورووا أن ابن عباس كان يحتج لذلك لقوله تعالى ‏{‏فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم‏}‏ وفي حرف عنه إلى أجل مسمى، وروى عنه أنه قال‏:‏ ما كانت المتعة إلا رحمة من الله عز وجل رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا نهى عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقي‏.‏ وهذا الذي روي عن ابن عباس رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار‏.‏ وعن عطاء قال‏:‏ ‏"‏سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏ ‏"‏تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر‏"‏ ثم نهى عنها عمر الناس‏.‏

وأما اختلافهم في النكاح الذي تقع فيه الخطبة على خطبه غيره، فقد تقدم أن فيه ثلاثة أقوال‏:‏ قول بالفسخ، وقول بعدم الفسخ، وفرق بين أن ترد الخطبة على خطبة الغير بعد الركون والقرب من التمام أو لا ترد وهو مذهب مالك‏.‏ وأما نكاح المحلل‏:‏ أعني الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثا، فإن مالكا قال‏:‏ هو نكاح مفسوخ؛ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ هو نكاح صحيح‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لعن الله المحلل‏"‏ الحديث فمن فهم من اللعن التأثيم فقط قال‏:‏ النكاح صحيح؛ ومن فهم من التأثيم فساد العقل تشبيها بالنهي الذي يدل على فساد المنهي عنه وقال‏:‏ النكاح فاسد، فهذه هي الأنكحة الفاسدة بالنهي‏.‏ وأما الأنكحة الفاسدة بمفهوم الشرع فإنها تفسد إما بإسقاط شرط من شروط صحة النكاح، أو لتغيير حكم واجب بالشرع من أحكامه مما هو عن الله عز وجل، وإما بزيادة تعود إلى إبطال شرط من شروط الصحة‏.‏ وأما الزيادات التي تعرض من هذا المعنى فإنها لا تفسد النكاح باتفاق، وإنما اختلف العلماء في لزوم الشروط التي بهذه الصفة أو لا لزومها مثل أن يشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من بلدها، فقال مالك‏:‏ إن اشترط ذلك لم يلزمه إلا أن يكون في ذلك يمين بعتق أو طلاق، فإن ذلك يلزمه إلا أن يطلق أو يعتق من أقسم عليه، فلا يلزم الشرط الأول أيضا، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة‏.‏ وقال الأوزاعي وابن شبرمة‏:‏ لها شرطها وعليه الوفاء؛ وقال ابن شهاب‏:‏ كان من أدركت من العلماء يقضون بها، وقول الجماعة مروي عن علي، وقول الأوزاعي مروي عن عمر‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص‏.‏ فأما العموم فحديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته ‏"‏كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط‏"‏ وأما الخصوص فحديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج‏"‏ والحديثان صحيحان خرجهما البخاري ومسلم، إلا أن المشهور عند الأصوليين القضاء بالخصوص على العموم وهو لزوم الشروط وهو ظاهر ما وقع في العتبية وإن كان المشهور خلاف ذلك‏.‏ وأما الشروط المقيدة بوضع من الصداق فإنه قد اختلف فيها لمذهب اختلافا كثيرا‏:‏ أعني في لزومها أو عدم لزومها، وليس كتابنا هذا موضوعا على الفروع‏.‏

‏(‏وأما حكم الأنكحة الفاسدة إذا وقعت‏)‏ فمنها ما اتفقوا على فسخه قبل الدخول وبعده، وهو ما كان منها فاسدا بإسقاط شرط متفق على وجوب صحة النكاح بوجوده، مثل أن ينكح محرمة العين؛ ومنها ما اختلفوا فيه بحسب اختلافهم في ضعف علة الفساد وقوتهما ولماذا يرجع من الإخلال بشروط الصحة ومالك في هذا الجنس ‏{‏وذلك في الأكثر‏}‏ يفسخه قبل الدخول ويثبته بعده والأصل فيه عنده أن لا فسخ، ولكنه يحتاط بمنزلة ما يرى في كثير من البيع الفاسد أنه يفوت بحوالة الأسواق وغير ذلك، ويشبه أن تكون هذه عنده هي الأنكحة المكروهة، وإلا فلا وجه للفرق بين الدخول وعدم الدخول والاضطراب في المذهب في هذا الباب كثير، وكأن هذا راجع عنده إلى قوة دليل الفسخ وضعفه، فمتى كان الدليل عنده قويا فسخ قبله وبعده، ومتى كان ضعيفا فسخ قبل ولم يفسخ بعد، وسواء كان الدليل القوي متفقا عليه أو مختلفا فيه‏.‏ ومن قبل هذا أيضا اختلف المذهب في وقوع الميراث في الأنكحة الفاسدة إذا وقع الموت قبل الفسخ، وكذلك وقوع الطلاق فيه، فمرة اعتبر فيه الاختلاف والاتفاق، ومرة اعتبر فيه الفسخ بعد الدخول أو عدمه، وقد نرى أن نقطع ههنا القول في هذا الكتاب، فإن ما ذكرنا منه كفاية بحسب غرضنا المقصود‏.‏

 كتاب الطلاق

-والكلام في هذا الباب ينحصر في أربع جمل‏:‏ الجملة الأولى‏:‏ في أنواع الطلاق‏.‏ الجملة الثانية‏:‏ في أركان الطلاق‏.‏ الجملة الثالثة‏:‏ في الرجعة‏.‏ الجملة الرابعة‏:‏ في أحكام المطلقات‏.‏

 (‏الجملة الأولى‏)‏ وفي هذه الجملة خمسة أبواب

-الباب الأول‏:‏ في معرفة الطلاق البائن والرجعي‏.‏ الباب الثاني‏:‏ في معرفة الطلاق السني من البدعي‏.‏ الباب الثالث‏:‏ في الخلع‏.‏ الباب الرابع‏:‏ في تمييز الطلاق من الفسخ‏.‏ الباب الخامس‏:‏ في التخيير والتمليك‏.‏

 الباب الأول في معرفة الطلاق البائن والرجعي‏.‏

-واتفقوا على أن الطلاق نوعان‏:‏ بائن ورجعي‏.‏ وأن الرجعي هو الذي يملك فيه الزوج رجعتها من غير اختيارها وأن من شرطه أن يكون في مدخول بها، وإنما اتفقوا على هذا لقوله تعالى ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة‏}‏ إلى قوله تعالى ‏{‏لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا‏}‏ وللحديث الثابت أيضا من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجع زوجته لما طلقها حائضا ولا خلاف في هذا‏.‏

وأما الطلاق البائن، فإنهم اتفقوا على أن البينونة إنما توجد للطلاق من قبل عدم الدخول ومن قبل عدم التطليقات ومن قبل العوض في الخلع على اختلاف بينهم هل الخلع طلاق أو فسخ على ما سيأتي بعد؛ واتفقوا على أن العدد الذي يوجب البينونة في طلاق الحر ثلاث تطليقات إذا وقعت مفترقات لقوله تعالى ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ الآية‏.‏ واختلفوا إذا وقعت ثلاثا في اللفظ دون الفعل، وكذلك اتفق الجمهور على أن الرق مؤثر في إسقاط أعداد الطلاق، وأن الذي يوجب البينونة في الرق اثنتان‏.‏ واختلفوا هل هذا معتبر برق الزوج أو برق الزوجة أم برق من رق منهما، ففي هذا الباب إذن ثلاث مسائل‏.‏

-‏ (‏المسألة الأولى‏)‏ جمهور الفقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة؛ وقال أهل الظاهر وجماعة‏:‏ حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ إلى قوله في الثالثة ‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ والمطلق بلفظ الثلاث مطلق واحدة لا مطلق ثلاث، واحتجوا أيضا بما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال‏:‏ كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر؛ واحتجوا أيضا بما رواه ابن إسحق عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف طلقتها‏؟‏ قال‏:‏ طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال‏:‏ إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها‏"‏ وقد احتج من انتصر لقول الجمهور بأن حديث ابن عباس الواقع في الصحيحين إنما رواه عنه من أصحابه طاوس، وأن جلة أصحابه رووا عنه لزوم الثلاث منهم سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة غيرهم، وأن حديث ابن إسحق وهم، وإنما روى الثقات أنه طلق ركانة زوجه البتة لا ثلاثا‏.‏ وسبب الخلاف هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع‏؟‏ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع‏؟‏ فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع قال‏:‏ لا يلزم؛ ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد منها لزمه على أي صفة كان ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه، وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك أعني في قوله تعالى ‏{‏لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا‏}‏ ‏.‏

-‏ (‏المسألة الثانية‏)‏ وأما اختلافهم في اعتبار نقص عدد الطلاق البائن بالرق فمنهم من قال المعتبر فيه الرجال، فإذا كان الزوج عبدا كان طلاقه البائن الطلقة الثانية، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، وبهذا قال مالك والشافعي ومن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس، وإن كان اختلف عنده في ذلك، لكن الأشهر عنه هو هذا القول‏.‏ ومنهم من قال إن الاعتبار في ذلك هو بالنساء، فإذا كانت الزوجة أمة كان طلاقها البائن الطلقة الثانية سواء كان الزوج عبدا أو حرا، وممن قال بهذا القول من الصحابة علي وابن مسعود، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة وغيره؛ وفي المسألة قول أشذ من هذين، وهو أن الطلاق يعتبر برق من رق منهما، قال ذلك عثمان البتي وغيره وروي عن ابن عمر‏.‏ وسبب هذا الاختلاف هل المؤثر في هذا هو رق المرأة أو رق الرجل، فمن قال التأثير في هذا لمن بيده الطلاق قال‏:‏ يعتبر بالرجال ومن قال التأثير في هذا للذي يقع عليه الطلاق قال‏:‏ هو حكم من أحكام المطلقة فشبهوها بالعدة‏.‏ وقد أجمعوا على أن العدة بالنساء‏:‏ أي نقصانها تابع لرق النساء؛ واحتج الفريق الأول بما روي عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء‏"‏ إلا أنه حديث لم يثبت في الصحاح‏.‏ وأما من اعتبر من رق منهما فإنه جعل سبب ذلك هو الرق مطلقا ولم يجعل سبب ذلك لا الذكورية ولا الأنوثية مع الرق‏.‏

-‏ (‏المسألة الثالثة‏)‏ وأما كون الرق مؤثرا في نقصان عدد الطلاق فإنه حكى قوم أنه إجماع؛ وأبو محمد بن حزم وجماعة من أهل الظاهر مخالفون فيه، ويرون أن الحر والعبد في هذا سواء‏.‏ وسبب الخلاف معارضة الظاهر في هذا للقياس، وذلك أن الجمهور صاروا إلى هذا المكان قياس طلاق العبد والأمة على حدودهما؛ وقد أجمعوا على كون الرق مؤثرا في نقصان الحد‏.‏ أما أهل الظاهر فلما كان الأصل عندهم أن حكم العبد في التكاليف حكم الحر إلا ما أخرجه الدليل، والدليل عندهم هو نص أو ظاهر من الكتاب أو السنة، ولم يكن هناك دليل مسموع صحيح وجب أن يبقى العبد على أصله، ويشبه أن يكون قياس الطلاق على الحد غير سديد، لأن المقصود بنقصان الحد رخصة للعبد لمكان نقصه، وأن الفاحشة ليست تقبح منه قبحها من الحر‏.‏ وأما نقصان الطلاق فهو من باب التغليظ، لأن وقوع التحريم على الإنسان بتطليقتين أغلظ من وقوعه بثلاث لما عسى أن يقع في ذلك من الندم والشرع إنما سلك في ذلك سبيل الوسط، وذلك أنه لو كانت الرجعة دائمة بين الزوجة لعنتت المرأة وشقيت، ولو كانت البينونة واقعة في الطلقة الواحدة لعنت الزوج من قبل الندم، وكان ذلك عسيرا عليه، فجمع الله بهذه الشريعة بين المصلحتين، ولذلك ما نرى والله أعلم أن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة، فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة‏.‏

 الباب الثاني في معرفة الطلاق السني من البدعي‏.‏

-أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة، وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر ‏"‏أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء‏"‏‏.‏ واختلفوا من هذا الباب في ثلاثة مواضع‏:‏ الموضع الأول‏:‏ هل من شرطه أن لا يتبعها طلاقا في العدة‏؟‏‏.‏ والثاني‏:‏ هل المطلق ثلاثا‏:‏ أعني بلفظ الثلاث مطلق للسنة أم لا‏؟‏‏.‏ والثالث‏:‏ في حكم من طلق في وقت الحيض‏.‏

-‏ (‏أما الموضع الأول‏)‏ فإنه اختلف فيه مالك وأبو حنيفة ومن تبعهما، فقال مالك‏:‏ من شرطها أن لا يتبعها في العدة طلاقا آخر‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن طلقها عند كل طهر طلقة واحدة كان مطلقا للسنة‏.‏ وسبب هذا الاختلاف هل من شرط هذا الطلاق أن يكون في حال الزوجية بعد رجعة أم ليس من شرطه‏؟‏ فمن قال هو من شرطه قال‏:‏ لا يتبعها فيه طلاقا، ومن قال ليس من شرطه أتبعها الطلاق ولا خلاف بينهم في وقوع الطلاق المتبع‏.‏

-‏ (‏وأما الموضع الثاني‏)‏ فإن مالكا ذهب إلى أن المطلق ثلاثا بلفظ واحد مطلق لغير سنة، وذهب الشافعي إلى أنه مطلق للسنة‏.‏ وسبب الخلاف معارضة إقراره عليه الصلاة والسلام للمطلق بين يديه ثلاثا في لفظة واحدة لمفهوم الكتاب في حكم الطلقة الثالثة‏.‏ والحديث الذي احتج به الشافعي هو ما ثبت من أن العجلاني طلق زوجته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الملاعنة قال‏:‏ فلو كان بدعة لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما مالك فلما رأى أن المطلق بلفظ الثلاث رافع للرخصة التي جعلها الله في العدد قال فيه إنه ليس للسنة، واعتذر أصحابه عن الحديث بأن المتلاعنين عنده قد وقعت الفرقة بينهما من قبل التلاعن نفسه، فوقع الطلاق على غير محله، فلم يتصف لا بسنة ولا ببدعة، وقول مالك - والله أعلم - أظهر ههنا من قول الشافعي‏.‏

-‏ (‏وأما الموضع الثالث‏:‏ في حكم من طلق في وقت الحيض‏)‏ فإن الناس اختلفوا في ذلك في مواضع‏:‏ منها أن الجمهور قالوا يمضي طلاقه؛ وقالت فرقة‏:‏ لا ينفذ ولا يقع؛ والذين قالوا ينفذ قالوا‏:‏ يؤمر بالرجعة وهؤلاء افترقوا فرقتين فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر على ذلك، وبه قال مالك وأصحابه‏.‏ وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار، فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره يجبر ما لم تنقض عدتها؛ وقال أشهب‏:‏ لا يجبر إلا في الحيضة الأولى‏.‏ والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء، فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وبه قال مالك والشافعي وجماعة؛ وقوم قالوا‏:‏ بل يراجعها، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها فإن شاء أمسك وإن شاء طلق، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه، فهنا إذا أربع مسائل‏:‏ أحدها‏:‏ هل يقع الطلاق أم لا‏؟‏‏.‏ والثانية‏:‏ إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط‏؟‏‏.‏ والثالثة‏:‏ متى يوقع الطلاق بعد الإجبار أو الندب، والرابعة متى يقع الإجبار‏.‏

-‏(‏أما المسألة الأولى‏)‏ فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به، وكان طلاقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ‏"‏مره فليراجعها‏"‏ قالوا‏:‏ والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال نعم، وروي أنه الذي كان يفتي به ابن عمر‏.‏ وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏ وقالوا‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه‏.‏ وبالجملة فسبب الاختلاف هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء، أم شروط كمال وتمام‏؟‏ فمن قال شروط إجزاء قال‏:‏ لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة، ومن قال‏:‏ شروط كمال وتمام قال‏:‏ يقع ويندب إلى أن يقع كاملا، ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض، فتدبر ذلك‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الثانية‏)‏ وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر‏؟‏ فمن اعتمد ظاهر الأمر وهو الوجوب على ما هو عليه عند الجمهور قال‏:‏ يجبر؛ ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال‏:‏ هذا الأمر هو على الندب‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الثالثة‏)‏ وهي متى يوقع الطلاق بعد الإجبار فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم قالوا‏:‏ والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطء في الطهر الذي بعد الحيض لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول‏.‏ وبالجملة فقالوا إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطء، وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله، وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عند الوهاب‏.‏ وأما الذين لم يشترطوا ذلك، فإنهم صاروا إلى ما روى يونس ابن جبير وسعيد ابن جبير وابن سيرين ومن تابعهم عن ابن عمر في هذا الحديث أنه قال‏:‏ يراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء، وقالوا‏:‏ المعنى في ذلك أنه إنما أمر بالرجوع عقوبة له لأنه طلق في زمان كره له فيه الطلاق، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه‏.‏ فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذه المسألة وتعارض مفهوم العلة‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الرابعة‏)‏ وهي متى يجبر فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها‏.‏ وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث، لأن فيه ‏"‏مره فليراجعها حتى تطهر‏"‏ فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة، وأيضا فإنه قال‏:‏ إنما أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة، فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع فإن قلنا إنه يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول، وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة‏.‏ فسبب الاختلاف هو سبب اختلافهم في علة الأمر بالرد‏.‏

 الباب الثالث في الخلع‏.‏

-واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة كلها تئول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها له جميع ما أعطاها والصلح ببعضه والفدية بأكثره والمبارأة بإسقاطها عنه حقا لها عليه على ما زعم الفقهاء، والكلام ينحصر في أصول هذا النوع من الفراق في أربعة فصول‏:‏ في جواز وقوعه أولا، ثم ثانيا في شروط وقوعه‏:‏ أعني جواز وقوعه، ثم ثالثا في نوعه‏:‏ أعني هل هو طلاق أو فسخ‏؟‏‏.‏ ثم رابعا فيما يلحقه من الأحكام‏.‏

 الفصل الأول في جواز وقوعه‏.‏

-فأما جواز وقوعه فعليه أكثر العلماء‏.‏ والأصل في ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ ‏.‏ وأما السنة فحديث ابن عباس ‏"‏أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الدخول في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتردين عليه حديقته‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقبل الحديقة وطلقها طلقة واحدة‏"‏ خرجه بهذا اللفظ البخاري وأبو داود والنسائي، وهو حديث متفق على صحته، وشذ أبو بكر ابن عبد الله المزيني عن الجمهور فقال‏:‏ لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئا، واستدل على ذلك بأنه زعم أن قوله تعالى ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ منسوخ بقوله تعالى ‏{‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا‏}‏ الآية‏.‏ والجمهور على أن معنى ذلك بغير رضاها، وأما برضاها فجائز‏.‏ فسبب الخلاف حمل هذا اللفظ على عمومه أو على خصوصه‏.‏

 الفصل الثاني في شروط وقوعه‏.‏

-فإما شروط جوازه فمنها ما يرجع إلى القدر الذي يجوز فيه؛ ومنها ما يرجع إلى صفة الشيء الذي يجوز به؛ ومنها ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها؛ ومنها ما يرجع إلى صفة من يجوز له الخلع من النساء أو من أوليائهن ممن لا تملك أمرها، ففي هذا الفصل أربع مسائل‏:‏

-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ أما مقدار ما يجوز لها أن تختلع به، فإن مالكا والشافعي وجماعة قالوا‏:‏ جائز أن تختلع المرأة بأكثر مما يصير لها من الزوج في صداقها إذا كان النشوز من قبلها وبمثله وبأقل منه؛ وقال قائلون‏:‏ ليس له أن يأخذ أكثر مما أعطاها على ظاهر حديث ثابت، فمن شبهه بسائر الأعواض في المعاملات رأى أن القدر فيه راجع إلى الرضا؛ ومن أخذ بظاهر الحديث لم يجز أكثر من ذلك، وكأنه رآه من باب أخذ المال بغير حق‏.‏

-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ وأما صفة العوض، فإن الشافعي وأبا حنيفة يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب، ومالك يجيز فيه المجهول الوجود والقدر والمعدوم، مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها والعبد غير الموصوف‏.‏ وحكي عن أبي حنيفة جواز الغرر ومنع المعدوم‏.‏ وسبب الخلاف تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع أو الأشياء الموهوبة والموصي بها؛ فمن شبهها بالبيوع اشترط ما يشترط في البيوع وفي أعواض البيوع؛ ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك‏.‏ واختلفوا إذا وقع الخلع بما لم يحل كالخمر والخنزير هل يجب لها عوض أم لا بعد اتفاقهم على أن الطلاق يقع‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا تستحق عوضا، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي‏:‏ يجب لها مهر المثل ‏(‏هكذا جميع النسخ‏.‏ ولعل الصواب يجب عليها، فإن العوض راجع للزوج، فليتأمل ا هـ مصححه‏)‏‏.‏

-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ وأما ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها الخلع من التي لا يجوز فإن الجمهور على أن الخلع جائز مع التراضي إذا لم يكن سبب رضاها بما تعطيه إضراره بها، والأصل في ذلك قوله تعالى ‏{‏ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ وشذ أبو قلابة والحسن البصري فقالا‏:‏ لا يحل للرجل الخلع عليها حتى يشاهدها تزني، وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا؛ وقال داود‏:‏ لا يجوز إلا بشرط الخوف أن لا يقيما حدود الله على ظاهر الآية؛ وشذ النعمان فقال‏:‏ يجوز الخلع مع الإضرار؛ والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل، فيتحصل في الخلع خمسة أقوال‏:‏ قول إنه لا يجوز أصلا‏.‏ وقوله إنه يجوز على كل حال‏:‏ أي مع الضرر‏.‏ وقول إنه لا يجوز إلا مع مشاهدة الزنا‏.‏ وقول مع خوف أن لا يقيما حدود الله‏.‏ وقول إنه يجوز في كل حال إلا مع الضرر، وهو المشهور‏.‏

-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ وأما من يجوز له الخلع ممن لا يجوز فإنه لا خلاف عند الجمهور أن الرشيدة تخالع عن نفسها، وأن الأمة لا تخالع عن نفسها إلا برضا سيدها، وكذلك السفيه مع وليها عند من يرى الحجر؛ وقال مالك‏:‏ يخالع الأب على ابنته الصغيرة كما ينكحها وكذلك على ابنه الصغير لأنه عنده يطلق عليه، والخلاف في الابن الصغير قال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا يجوز لأنه لا يطلق عليه عندهم والله أعلم وخلع المريضة يجوز عند مالك إذا كان بقدر ميراثه منها؛ وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز خلعها بالثلث كله؛ وقال الشافعي‏:‏ لو اختلعت بقدر مهر مثلها جاز، وكان من رأس المال، وإن زاد على ذلك كانت الزيادة من الثلث‏.‏ وأما المهملة التي لا وصي لها ولا أب فقال ابن القاسم‏:‏ يجوز خلعها إذا كان خلع مثلها، والجمهور على أنه يجوز خلع المالكة لنفسها؛ وشذ الحسن وابن سيرين فقالا‏:‏ لا يجوز الخلع إلا بإذن السلطان‏.‏

 الفصل الثالث في نوعه‏.‏

-وأما نوع الخلع فجمهور العلماء على أنه طلاق، وبه قال مالك، وأبو حنيفة سوى بين الطلاق والفسخ؛ وقال الشافعي‏:‏ هو فسخ، وبه قال أحمد وداود ومن الصحابة ابن عباس‏.‏ وقد روي عن الشافعي أنه كناية، فإن أراد به الطلاق كان طلاقا وإلا كان فسخا، وقد قيل عنه في قوله الجديد إنه طلاق وفائدة الفرق هل يعتد به في التطليقات أم لا‏؟‏ وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا، لأنه لو كان للزوج في العدة منه الرجعة عليها لم يكن لافتدائها معنى وقال أبو ثور‏:‏ إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة، وإن كان بلفظ الطلاق كان له عليها الرجعة احتج من جعله طلاقا بأن الفسوخ إنما هي التي تقتضي الفرقة الغالبة للزوج في الفراق مما ليس يرجع إلى اختياره، وهذا راجع إلى الاختيار فليس بفسخ، واحتج من لم يره طلاقا بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ ثم ذكر الافتداء ثم قال ‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وعند هؤلاء أن الفسوخ تقع بالتراضي قياسا على فسوخ البيع‏:‏ أعني الإقالة، وعند المخالف أن الآية إنما تضمنت حكم الاقتداء على أنه شيء يلحق جميع أنواع الطلاق لا أنه شيء غير الطلاق‏.‏ فسبب الخلاف هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع الفسخ أم ليس يخرجها‏؟‏‏.‏

 الفصل الرابع فيما يلحقه من الأحكام‏.‏

-وأما لواحقه ففروع كثيرة، لكن نذكر منها ما شهر‏:‏ فمنها هل يرتدف على المختلعة طلاق أم لا‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا يرتدف إلا إن كان الكلام متصلا؛ وقال الشافعي‏:‏ لا يرتدف وإن كان الكلام متصلا؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ يرتدف ولم يفرق بين الفور والتراخي‏.‏ وسبب الخلاف أن العدة عند الفريق الأول من أحكام الطلاق، وعند أبي حنيفة من أحكام النكاح، ولذلك لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها، فمن رآها من أحكام النكاح ارتدف الطلاق عنده، ومن لم ير ذلك لم يرتدف؛ ومنها أن جمهور العلماء أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا‏:‏ إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها، والفرق الذي ذكرناه عن أبي ثور بين أن يكون بلفظ الطلاق أو لا يكون؛ ومنها أن الجمهور أجمعوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها؛ وقالت فرقة من المتأخرين‏:‏ لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة‏.‏ وسبب اختلافهم هل المنع من النكاح في العدة عبادة أو ليس بعبادة بل معلل‏؟‏‏.‏ واختلفوا في عدة المختلعة وسيأتي بعد‏.‏ واختلفوا إذا اختلف الزوج والزوجة في مقدار العدد الذي وقع به الخلع فقال مالك‏:‏ القول قوله إن لم يكن هنالك بينة؛ وقال الشافعي‏:‏ يتحالفان ويكون عليها مهر المثل، شبه الشافعي اختلافهما باختلاف المتبايعين؛ وقال مالك‏:‏ هي مدعى عليها وهو مدع‏.‏ ومسائل هذا الباب كثيرة وليس مما يليق بقصدنا‏.‏

 الباب الرابع في تمييز الطلاق من الفسخ‏.‏

-واختلف قول مالك رحمه الله في الفرق بين الفسخ الذي لا يعتد به في التطليقات الثلاث وبين الطلاق الذي يعتد به في الثلاث إلى قولين‏:‏ أحدهما أن النكاح إن كان فيه خلاف خارج عن مذهبه‏:‏ أعني في جوازه، وكان الخلاف مشهورا فالفرقة عنده فيه طلاق مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها والمحرم، فهذه على هذه الرواية هي طلاق لا فسخ‏.‏ والقول الثاني أن الاعتبار في ذلك هو بالسبب الموجب للتفرق، فإن كان غير راجع إلى الزوجين مما لو أراد الإقامة على الزوجية معه لم يصح كان فسخا مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح أو العدة وإن كان مما لهما أن يقيما عليه مثل الرد بالعيب كان طلاقا‏.‏

 الباب الخامس في التخيير والتمليك‏.‏

-ومما يعد من أنواع الطلاق مما يرى أن له أحكاما خاصة‏:‏ التمليك والتخيير، والتمليك عن مالك في المشهور غير التخيير، وذلك أن التمليك هو عنده تمليك المرأة إيقاع الطلاق، فهو يحتمل الواحدة فما فوقها، ولذلك له أن يناكرها عنده فيما فوق الواحدة، والخيار بخلاف ذلك لأنه يقتضي إيقاع طلاق تنقطع معه العصمة إلا أن يكون تخييرا مقيدا مثل أن يقول لها اختاري نفسك أو اختاري تطليقة أو تطليقتين، ففي الخيار المطلق عند مالك ليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث، وإن اختارت واحدة لم يكن لها ذلك، والمملكة لا يبطل تمليكها عنده إن لم توقع الطلاق حتى يطول الأمر بها على إحدى الروايتين أو يتفرقا من المجلس؛ والرواية الثانية أنه يبقى لها التمليك إلى أن ترد أو تطلق والفرق عند مالك بين التمليك وتوكيله إياها على تطليق نفسها أن في التوكيل له أن يعزلها قبل أن تطلق، وليس له ذلك في التمليك؛ وقال الشافعي‏:‏ اختاري وأمرك بيدك سواء، ولا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينويه، وإن نواه فهو ما أراد إن واحدة فواحدة وإن ثلاثا فثلاث، فله عنده أن يناكرها في الطلاق نفسه، وفي العدد في الخيار أو التمليك، وهي عنده إن طلقت نفسها رجعية، وكذلك هي عند مالك في التمليك؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الخيار ليس بطلاق، فإن طلقت نفسها في التمليك واحدة فهي بائنة؛ وقال الثوري‏:‏ الخيار والتمليك واحد لا فرق بينهما، وقد قيل القول قولها في أعداد الطلاق في التمليك، وليس للزوج مناكرتها، وهذا القول مروي عن علي وابن المسيب، وبه قال الزهري وعطاء، وقد قيل إنه ليس للمرأة في التمليك إلا أن تطلق نفسها تطليقة واحدة، وذلك مروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، روى أنه جاء ابن مسعود رجل فقال‏:‏ كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس، فقالت‏:‏ لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، قال‏:‏ فإن الذي بيدي من أمرك بيدك، قالت‏:‏ فأنت طالق ثلاثا، قال‏:‏ أراها واحدة وأنت أحق بها ما دامت في عدتها، وسألقى أمير المؤمنين عمر، ثم لقيه فقص عليه القصة فقال‏:‏ صنع الله بالرجال وفعل‏:‏ يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه بأيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلت فيها‏؟‏ قال‏:‏ قلت أراها واحدة وهو أحق بها قال‏:‏ وأنا أرى ذلك، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب، وقد قيل ليس التمليك بشيء لأن ما جعل الشرع بيد الرجل ليس يجوز أن يرجع إلى يد المرأة بجعل جاعل‏.‏ وكذلك التخيير وهو قول أبي محمد بن حزم وقول مالك في المملكة إن لها الخيار في الطلاق أو البقاء على العصمة ما دامت في المجلس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وجماعة فقهاء الأمصار؛ وعند الشافعي أن التمليك إذا أراد به الطلاق كالوكالة، وله أن يرجع في ذلك متى أحب ذلك ما لم يوقع الطلاق، وإنما صار الجمهور للقضاء بالتمليك أو بالتخيير، وجعل ذلك للنساء لما ثبت من تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قالت عائشة خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يكن طلاقا، لكن أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق‏.‏ وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن التخيير والتمليك واحد في الحكم، لأن من عرف دلالة اللغة أن من ملك إنسانا أمرا من الأمور إن شاء أن يفعله أو لا يفعله فإنه قد خيره‏.‏

وأما مالك فيرى أن قوله لها اختاريني أو اختاري نفسك أنه ظاهر بعرف الشرع في معنى البينونة بتخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه لأن المفهوم منه إنما كان البينونة وإنما رأى مالك أنه لا يقبل قول الزوج في التمليك أنه لم يرد به طلاقا إذا زعم ذلك لأنه لفظ ظاهر في معنى جعل الطلاق بيدها، وأما الشافعي فلما لم يكن اللفظ عنده نصا اعتبر فيه النية‏.‏ فسبب الخلاف هل يغلب ظاهر اللفظ أو دعوى النية، وكذلك فعل في التخيير، وإنما اتفقوا على أن له مناكرتها في العدد‏:‏ أعني في لفظ التمليك، لأنه لا يدل عليه دلالة محتملة فضلا عن ظاهره، وإنما رأى مالك والشافعي أنه إذا طلقت نفسها بتمليكه إياها طلقة واحدة أنها تكون رجعية، لأن الطلاق إنما يحمل على العرف الشرعي وهو طلاق السنة، وإنما رأى أبو حنيفة أنها بائنة، لأنه إذا كان له عليها رجعة لم يكن لما طلبت من التمليك فائدة ولما قصد هو من ذلك‏.‏ وأما من رأى أن لها أن تطلق نفسها في التمليك ثلاثا وأنه ليس للزوج مناكرتها في ذلك، فلأن معنى التمليك عنده إنما هو تصيير جميع ما كان بيد الرجل من الطلاق بيد المرأة فهي مخيرة فيما توقعه من أعداد الطلاق‏.‏

وأما من جعل التمليك طلقة واحدة فقط أو التخيير، فإنما ذهب إلى أنه أقل ما ينطلق عليه الاسم واحتياطا للرجال لأن العلة في جعل الطلاق بأيدي الرجال دون النساء هو لنقصان عقلهن وغلبة الشهوة عليهن مع سوء المعاشرة، وجمهور العلماء على أن المرأة إذا اختارت زوجها أنه ليس بطلاق لقول عائشة المتقدم‏.‏ وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة، وإذا اختارت نفسها فثلاث، فيتحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاث مواضع‏:‏ أحدها أنه لا يقع بواحد منهما طلاق‏.‏ والثاني أنه تقع بينهما فرقة‏.‏ والثالث الفرق بين التخيير والتمليك فيما تملك به المرأة، أعني أن تملك بالتخيير البينونة، وبالتمليك ما دون البينونة، وإذا قلنا بالبينونة فقيل تملك واحدة، وقيل تملك الثلاث؛ وإذا قلنا إنها تملك واحدة فقيل رجعية، وقيل بائنة‏.‏ وأما حكم الألفاظ التي تجيب بها المرأة في التخيير والتمليك فهي ترجع إلى حكم الألفاظ التي يقع بها الطلاق في كونها صريحة في الطلاق أو كناية أو محتملة، وسيأتي تفصيل ذلك عند التكلم في ألفاظ الطلاق‏.‏

 (‏الجملة الثانية‏)‏ وفي هذه الجملة ثلاثة أبواب

-الباب الأول‏:‏ في ألفاظ الطلاق وشروطه‏.‏ الباب الثاني‏:‏ في تفصيل من يجوز طلاقه ممن لا يجوز‏.‏ الباب الثالث في تفصيل من يقع عليها الطلاق من النساء ممن لا يقع‏.‏

 الباب الأول في ألفاظ الطلاق وشروطه‏.‏

-وهذا الباب فيه فصلان‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة‏.‏ الفصل الثاني‏:‏ في أنواع ألفاظ الطلاق المقيدة‏.‏

 الفصل الأول في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة‏.‏

-أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بنية وبلفظ صريح‏.‏ واختلفوا هل يقع بالنية مع اللفظ الذي ليس بصريح، أو بالنية دون اللفظ، أو باللفظ دون النية؛ فمن اشترط فيه النية واللفظ الصريح فاتباعا لظاهر الشرع، وكذلك من أقام الظاهر مقام الصريح، ومن شبهه بالعقد في النذر وفي اليمين أوقعه بالنية فقط، ومن أعمل التهمة أوقعه باللفظ فقط‏.‏ واتفق الجمهور على أن ألفاظ الطلاق المطلقة صنفان‏:‏ صريح، وكناية‏.‏ واختلفوا في تفصيل الصريح من الكناية وفي أحكامها وما يلزم فيها، ونحن إنما قصدنا من ذلك ذكر المشهور وما يجري مجرى الأصول، فقال مالك وأصحابه‏:‏ الصريح هو لفظ الطلاق فقط، وما عدا ذلك كناية، وهي عنده على ضربين ظاهرة ومحتملة، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي‏:‏ ألفاظ الطلاق الصريحة ثلاث‏:‏ الطلاق، والفراق، والسراح، وهي مذكورة في القرآن؛ وقال بعض أهل الظاهر‏:‏ لا يقع طلاق إلا بهذه الثلاث‏.‏ فهذا هو اختلافهم في صريح الطلاق من غير صريحه‏.‏ وإنما اتفقوا على أن لفظ الطلاق صريح لأن دلالته على هذا المعنى الشرعي دلالة وضوعية بالشرع فصار أصلا في هذا الباب‏.‏ وأما ألفاظ الفراق والسراح فهي مترددة بين أن يكون للشرع فيها تصرف‏:‏ أعني أن تدل بعرف الشرع على المعنى الذي يدل عليه الطلاق، أو هي باقية على دلالتها اللغوية فإذا استعملت في هذا المعنى‏:‏ أعني في معنى الطلاق كانت مجازا إذ هذا هو معنى الكناية‏:‏ أعني اللفظ الذي يكون مجازا في دلالته، وإنما ذهب من ذهب إلى أنه لا يقع الطلاق إلا بهذه الألفاظ الثلاثة، لأن الشرع إنما ورد بهذه الألفاظ الثلاثة وهي عبادة، ومن شرطها اللفظ، فوجب أن يقتصر بها على اللفظ الشرعي الوارد فيها‏.‏ فأما اختلافهم في أحكام صريح ألفاظ الطلاق ففيه مسئلتان مشهورتان‏:‏ إحداهما اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة عليها‏.‏ والثانية اختلفوا فيها‏.‏ فأما التي اتفقوا عليها فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة قالوا‏:‏ لا يقبل قول المطلق إذا نطق بألفاظ الطلاق أنه لم يرد به طلاقا إذا قال لزوجته أنت طالق، وكذلك السراح والفراق عند الشافعي؛ واستثنت المالكية بأن قالت‏:‏ إلا أن تقترن بالحالة أو بالمرأة قرينة تدل على صدق دعواه، مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق هي فيه وشبهه فيقول لها أنت طالق‏.‏ وفقه المسألة عند الشافعي وأبي حنيفة أن الطلاق لا يحتاج عندهم إلى نية؛ وأما مالك فالمشهور عنه أن الطلاق عنده يحتاج إلى نية، لكن لم ينوه ههنا لموضع التهم، ومن رأيه الحكم بالتهم سدا للذرائع، وذلك مما خالفه فيه الشافعي وأبو حنيفة، فيجب على رأي من يشترط النية في ألفاظ الطلاق ولا يحكم بالتهم أن يصدقه فيما ادعى‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الثانية‏)‏ فهي اختلافهم فيمن قال لزوجته أنت طالق، وادعى أنه أراد بذلك أكثر من واحدة إما ثنتين وإما ثلاثا، فقال مالك‏:‏ هو ما نوى وقد لزمه، وبه قال الشافعي إلا أن يقيد فيقول طلقة واحدة، وهذا القول هو المختار عند أصحابه؛ وأما أبو حنيفة فقال‏:‏ لا يقع ثلاثا بلفظ الطلاق لأن العدد لا يتضمنه لفظ الإفراد لا كناية ولا تصريحا‏.‏ وسبب اختلافهم هل يقع الطلاق بالنية دون اللفظ أو بالنية مع اللفظ المحتمل‏؟‏ فمن قال بالنية أوجب الثلاث، وكذلك من قال بالنية واللفظ المحتمل ورأى أن لفظ الطلاق يحتمل العدد؛ ومن رأى أنه لا يحتمل العدد وأنه لابد من اشتراط اللفظ في الطلاق مع النية قال‏:‏ لا يجب العدد وإن نواه؛ وهذه المسألة اختلفوا فيها، وهي من مسائل شروط ألفاظ الطلاق‏:‏ أعني اشتراط النية مع اللفظ، أو بانفراد أحدهما، فالمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية، وبه قال أبو حنيفة، وقد روي عنه أنه يقع باللفظ دون النية؛ وعند الشافعي أن لفظ الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية، فمن اكتفى بالنية احتج بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنما الأعمال بالنيات‏"‏ ومن لم يعتبر النية دون اللفظ احتج بقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها‏"‏ والنية دون قول حديث نفس قال‏:‏ وليس يلزم من اشترط النية في العمل في الحديث المتقدم أن تكون النية كافية بنفسها‏.‏ واختلف المذهب هل يقع بلفظ الطلاق في المدخول بها طلاق بائن إذا قصد ذلك المطلق ولم يكن هنالك عوض‏؟‏ فقيل يقع، وقيل لا يقع، وهذه المسألة هي من مسائل أحكام صريح ألفاظ الطلاق‏.‏ وأما ألفاظ الطلاق التي ليست بصريح، فمنها ما هي كناية ظاهرة عند مالك، ومنها ما هي كناية محتملة؛ ومذهب مالك أنه إذا ادعى في الكناية الظاهرة أنه لم يرد طلاقا لم يقبل قوله إلا أن تكون هنالك قرينة تدل على ذلك كرأيه في الصريح، وكذلك لا يقبل عنده ما يدعيه من دون الثلاث في الكنايات الظاهرة وذلك في المدخول بها إلا أن يكون قال ذلك في الخلع‏.‏ وأما غير المدخول بها فيصدقه في الكناية الظاهرة فيما دون الثلاث، لأن طلاق غير المدخول بها بائن، وهذه هي مثل قولهم‏:‏ حبلك على غاربك، ومثل البتة، ومثل قولهم‏:‏ أنت خلية وبرية‏.‏

وأما مذهب الشافعي في الكنايات الظاهرة فإنه يرجع في ذلك إلى ما نواه، فإن كان نوى طلاقا كان طلاقا وإن كان نوى ثلاثا كان ثلاثا أو واحدة كان واحدة ويصدق في ذلك وقول أبي حنيفة في ذلك مثل قول الشافعي، إلا أنه إذا نوى على أصله واحدة أو اثنتين وقع عنده طلقة واحدة بائنة، وإن اقترنت به قرينة تدل على الطلاق وزعم أنه لم ينوه لم يصدق، وذلك إذا كان عنده في ذاكرته الطلاق؛ وأبو حنيفة يطلق بالكنايات كلها إذا اقترنت بها هذه القرينة إلا أربع‏:‏ حبلك على غاربك، واعتدي، واستبرئي، وتقنعي، لأنها عنده من المحتملة غير الظاهرة وأما ألفاظ الطلاق المحتملة غير الظاهرة فعند مالك أنه يعتبر فيها نيته كالحال عند الشافعي في الكناية الظاهرة، وخالفه في ذلك جمهور العلماء فقالوا‏:‏ ليس فيها شيء، وإن نوى طلاقا فيتحصل في الكنايات الظاهرة ثلاثة أقوال‏:‏ قول أن يصدق بإطلاق، وهو قول الشافعي؛ وقول إنه لا يصدق بإطلاق إلا أن يكون هنالك قرينة، وهو قول مالك؛ وقول إنه يصدق إلا أن يكون في مذاكرة الطلاق، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ وفي المذهب خلاف في مسائل يتردد حملها بين الظاهر والمحتمل، وبين قوتها وضعفها في الدلالة على صفة البينونة فوقع فيها الاختلاف وهي راجعة إلى هذه الأصول؛ وإنما صار مالك إلى أنه لا يقبل قوله في الكنايات الظاهرة إنه لم يرد به طلاقا، لأن العرف اللغوي والشرعي شاهد عليه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تلفظ بها الناس غالبا، والمراد بها الطلاق، إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على خلاف ذلك، وإنما صار إلى أنه لا يقبل قوله فيما يدعيه دون الثلاث، لأن الظاهر من هذه الألفاظ هو البينونة، والبينونة لا تقع إلا خلعا عنده في المشهور أو ثلاثا، وإذا لم تقع خلعا لأنه ليس هناك عوض فبقي أن يكون ثلاثا، وذلك في المدخول بها، ويتخرج على القول في المذهب بأن البائن تقع من دون عوض ودون عدد أن يصدق في ذلك وتكون واحدة بائنة، وحجة الشافعي أنه إذا وقع الإجماع على أنه يقبل قوله فيما دون الثلاث في صريح ألفاظ الطلاق كان أحرى أن يقبل قوله في كنايته لأن دلالة الصريح أقوى من دلالة الكناية، ويشبه أن تقول المالكية إن لفظ الطلاق وإن كان صريحا في الطلاق فليس بصريح في العدد ومن الحجة للشافعي حديث ركانة المتقدم، وهو مذهب عمر في حبلك على غاربك، وإنما صار الشافعي إلى أن الطلاق في الكنايات الظاهرة إذا نوى ما دون الثلاث يكون رجعيا لحديث ركانة المتقدم، وصار أبو حنيفة إلى أنه يكون بائنا لأنه المقصود به قطع العصمة، ولم يجعله ثلاثا لأن الثلاث معنى زائد على البينونة عنده‏.‏ فسبب اختلافهم هل يقدم عرف اللفظ على النية أو النية على عرف اللفظ‏؟‏

وإذا غلبنا عرف اللفظ فهل يقتضي البينونة فقط أو العدد‏؟‏ فمن قدم النية لم يقض عليه بعرف اللفظ، ومن قدم العرف الظاهر لم يلتفت إلى النية‏.‏ ومما اختلف فيه الصدر الأول وفقهاء الأمصار من هذا الباب‏:‏ أعني من جنس المسائل الداخلة في هذا الباب لفظ التحريم‏:‏ أعني من قال لزوجته أنت على حرام، وذلك أن مالكا قال‏:‏ يحمل في المدخول بها على البت‏:‏ أي الثلاث وينوي في غير المدخول بها، وذلك على قياس قوله المتقدم في الكنايات الظاهرة وهو قول ابن أبي ليلى وزيد بن ثابت وعلي من الصحابة، وبه قال أصحابه إلا ابن الماجشون فإنه قال‏:‏ لا ينوي في غير المدخول بها وتكون ثلاثا،

فهذا هو أحد الأقوال في هذه المسألة،

والقول الثاني أنه إن نوى بذلك ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة، وإن نوى يمينا فهو يمين يكفرها، وإن لم ينو به طلاقا ولا يمينا فليس بشيء، هي كذبة، وقال بهذا القول الثوري،

والقول الثالث أنه يكون أيضا ما نوى بها وإن نوى واحدة فواحدة أو ثلاثا فثلاث، وإن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها، وهذا القول قاله الأوزاعي‏.‏

والقول الرابع أن ينوي فيها في الموضعين في إرادة الطلاق وفي عدده، فما نوى كان ما نوى، فإن نوى واحدة كان رجعيا، وإن أراد تحريمها بغير طلاق فعليه كفارة يمين وهو قول الشافعي‏.‏

والقول الخامس أنه ينوي أيضا في الطلاق وفي العدد، فإن نوى واحدة كانت بائنة، فإن لم ينو طلاقا كان يمينا وهو مول، فإن نوى الكذب فليس بشيء، وهذا القول قاله أبو حنيفة وأصحابه‏.‏

والقول السادس إنها يمين يكفرها ما يكفر اليمين، إلا أن بعض هؤلاء قال يمين مغلظة، وهو قول عمر وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين؛ وقال ابن عباس وقد سئل عنها‏:‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، خرجه البخاري ومسلم ذهب إلى الاحتجاج بقوله تعالى ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ الآية‏.‏

والقول السابع أن تحريم المرأة كتحريم الماء، وليس فيه كفارة ولا طلاق لقوله تعالى ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ وهو قول مسروق والأجدع وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وغيرهم‏.‏ ومن قال فيها إنها غير مغلظة بعضهم أوجب فيها الواجب في الظهار، وبعضهم أوجب فيها عتق رقبة‏.‏ وسبب الاختلاف هل هو يمين أو كناية‏؟‏ أو ليس بيمين ولا كناية‏؟‏ فهذه أصول ما يقع من الاختلاف في ألفاظ الطلاق‏.‏

 الفصل الثاني في ألفاظ الطلاق المقيدة‏.‏

-والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين‏:‏ إما تقييد اشتراط، أو تقييد استثناء، والتقييد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة أو بخروج شيء مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس، أو إلى الوجود أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون‏.‏ فأما تعليق الطلاق بالمشيئة فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة مخلوق، فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط مثل أن يقول أنت طالق إن شاء الله، أو على جهة الاستثناء مثل أن يقول أنت طالق إلا أن يشاء الله، فإن مالكا قال‏:‏ لا يؤثر الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع لابد‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق‏.‏ وسبب الخلاف هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق‏؟‏ وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر؛ فمن قال لا يتعلق به قال‏:‏ لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق؛ ومن قال يتعلق به قال‏:‏ يؤثر فيه‏.‏ وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ويتوصل إلى علمها فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته‏.‏ وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له، ففيه خلاف في المذهب، قيل يلزمه الطلاق، وقيل لا يلزمه، والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى؛ فمن شبهه بطلاق الهزل وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال‏:‏ يقع هذا الطلاق؛ ومن اعتبر وجود الشرط قال‏:‏ لا يقع لأن الشرط قد عدم ههنا‏.‏ وأما تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة، فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب‏:‏ أحدها ما يمكن أن يقع أو لا يقع على السواء كدخول الدار وقدوم زيد، فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف‏.‏ وأما ما لابد من وقوعه كطلوع الشمس غدا، فهذا يقع ناجزا عند مالك، ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط؛ فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال‏:‏ لا يقع إلا بوقوع الشرط؛ ومن شبهه بالوطء الواقع في الأجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال‏:‏ يقع الطلاق؛ والثالث هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط، وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيء الحيض والطهر، ففي ذلك روايتان عن مالك‏:‏ إحداهما وقوع الطلاق ناجزا؛ والثانية وقوعه على وجود شرطه، وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولابد، والخلاف فيه قوي، وأما تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول‏:‏ إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا، وأما إن علقه بشيء يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول‏:‏ إن ولدت أنثى فأنت طالق فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشيء إلى الوجود‏.‏ وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى، فأن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت إنثى، وكان هذا من باب التغليظ، والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشيء أو ضده ومن قول مالك إنه إذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل، وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل ويوقف عنده عن وطء زوجته، فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الإيلاء ضرب له أجل الإيلاء ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته، ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل، وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت‏.‏ ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة، أو تبعيض الطلاق وإرداف الطلاق على الطلاق‏.‏ فأما مسألة تبعيض المطلقة، فإن مالكا قال‏:‏ إذا قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق طلقت عليه؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج، وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها، مثل الثلث أو الربع؛ وقال داود‏:‏ لا تطلق؛ وكذلك إذا قال عند مالك‏:‏ طلقتك نصف تطليقة طلقت، لأن هذا كله عنده لا يتبعض؛ وعند المخالف إذا تبعض لم يقع، وأما إذا قال لغير المدخول بها‏:‏ أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقا، فإنه يكون ثلاثا عند مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ يقع واحدة؛ فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد، أعني بقوله طلقتك ثلاثا قال‏:‏ يقع الطلاق ثلاثا؛ ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال‏:‏ لا يقع عليها الثاني والثالث، ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي‏.‏

وأما الطلاق المقيد بالاستثناء فإنما يتصور في العدد فقط، فإذا طلق أعدادا من الطلاق، فلا يخلو من ثلاثة أحوال‏:‏ إما أن يستثني ذلك العدد بعينه، مثل أن يقول‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، أو اثنتين إلا اثنتين؛ وإما أن يستثني ما هو أقل‏.‏

وإذا استثنى ما هو أقل، فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر، وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل، فإذا استثنى الأقل من الأكثر فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى‏:‏ مثل أن يقول‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا واحدة‏.‏ وأما إن استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان‏:‏ أحدهما أن الاستثناء لا يصح، وهو مبني على منع أن يستثنى الأكثر من الأقل‏.‏ والآخر أن الاستثناء يصح، وهو قول مالك‏.‏ وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، فإن مالكا قال‏:‏ يقع الطلاق لأنه اتهمه على أنه رجوع منه‏.‏ وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع الطلاق فلا طلاق عليه، كما لو قال أنت طالق لا طالق معا، فإن وقوع الشيء مع ضده مستحيل‏.‏ وشذ أبو محمد بن حزم فقال‏:‏ لا يقع الطلاق بصفة لم تقع بعد ولا بفعل لم يقع، لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه، فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع، هذا قياس قوله عندي وحجته، وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك‏.‏

 الباب الثاني في المطلق الجائز الطلاق‏.‏

-واتفقوا على أنه الزوج العاقل البالغ الحر غير المكره، واختلفوا في طلاق المكره والسكران وطلاق المريض وطلاق المقارب للبلوغ‏.‏ واتفقوا على أنه يقع طلاق المريض إن صح، واختلفوا هل ترثه إن مات أم لا‏؟‏ فأما طلاق المكره فإنه غير واقع عند مالك والشافعي وأحمد وداود وجماعة، وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير وعمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وابن عباس‏.‏ وفرق أصحاب الشافعي بين أن ينوي الطلاق أو لا ينوي شيئا، فإن نوى الطلاق فعنهم قولان أصحهما لزومه‏:‏ وإن لم ينو فقولان أصحهما أنه لا يلزم؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ هو واقع، وكذلك عتقه دون بيعه، ففرقوا بين البيع والطلاق والعتق‏.‏ وسبب الخلاف هل المطلق من قبل الإكراه مختار أم ليس بمختار‏؟‏ لأنه ليس يكره على اللفظ إذ كان اللفظ إنما يقع باختياره‏.‏ والمكره على الحقيقة هو الذي لم يكن له اختيار في إيقاع الشيء أصلا، وكل واحد من الفريقين يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏"‏ ولكن الأظهر أن المكره على الطلاق وإن كان موقعا للفظ باختياره أنه ينطلق عليه في الشرع اسم المكره لقوله تعالى ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ وإنما فرق أبو حنيفة بين البيع والطلاق، لأن الطلاق مغلظ فيه، ولذلك استوى جده وهزله‏.‏ وأما طلاق الصبي، فإن المشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ؛ وقال في مختصر ما ليس في المختصر‏:‏ أنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام، وبه قال أحمد بن حنبل إذا هو أطاق صيام رمضان؛ وقال عطاء‏:‏ إذا بلغ اثنتي عشرة سنة جاز طلاقه، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ وأما طلاق السكران، فالجمهور من الفقهاء على وقوعه؛ وقال قوم‏:‏ لا يقع منهم المزني وبعض أصحاب أبي حنيفة‏.‏ والسبب في اختلافهم هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق‏؟‏ فمن قال هو والمجنون سواء إذ كان كلاهما فاقدا للعقل، ومن شرط التكليف العقل قال‏:‏ لا يقع؛ ومن قال الفرق بينهما أن السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته والمجنون بخلاف ذلك ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه‏.‏ واختلف الفقهاء فيما يلزم السكران بالجملة من الأحكام وما لا يلزمه، فقال مالك‏:‏ يلزمه الطلاق والعتق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع، وألزمه أبو حنيفة كل شيء؛ وقال الليث‏:‏ كل ما جاء من منطق السكران فموضوع عنه، ولا يلزمه طلاق ولا عتق ولا نكاح ولا بيع ولا حد في قذف، وكل ما جنته جوارحه فلازم له، فيحد في الشرب والقتل والزنى والسرقة‏.‏ وثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان لا يرى طلاق السكران‏.‏ وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة‏.‏ وقول من قال‏:‏ إن كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ليس نصا في إلزام السكران الطلاق لأن السكران معتوه ما، وبه قال داود وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين‏:‏ أعني أن طلاقه ليس يلزم؛ وعن الشافعي القولان في ذلك، واختار أكثر أصحابه قوله الموافق للجمهور، واختار المزني من أصحابه أن طلاقه غير واقع‏.‏ وأما المريض الذي يطلق طلاقا بائنا ويموت من مرضه، فإن مالكا وجماعة يقول‏:‏ ترثه زوجته، والشافعي وجماعة لا يورثها‏.‏ والذين قالوا بتوريثها انقسموا ثلاث فرق‏:‏ ففرقة قالت لها الميراث ما دامت في العدة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري؛ وقال قوم‏:‏ لها الميراث ما لم تتزوج، وممن قال بهذا أحمد وابن أبي ليلى؛ وقال قوم‏:‏ بل ترث كانت في العدة أو لم تكن، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث‏.‏

وسبب الخلاف اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع؛ وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق في مرضه زوجته ليقطع حظها من الميراث؛ فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها؛ ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب لها ميراثا، وذلك أن هذه الطائفة تقول‏:‏ إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه، لأنهم قالوا‏:‏ إنه لا يرثها إن ماتت وإن كان لم يقع فالزوجية باقية بجميع أحكامها، ولابد لخصومهم من أحد الجوابين، لأنه يعسر أن يقال إن في الشرع نوعا من الطلاق توجد له بعض أحكام الطلاق وبعض أحكام الزوجية؛ وأعسر من ذلك القول بالفرق بين أن يصح أو لا يصح، لأن هذا يكون طلاقا موقوف الحكم إلى أن يصح أو لا يصح، وهذا كله مما يعسر القول به في الشرع، ولكن إنما أنس القائلون به أنه فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة، ولا معنى لقولهم فإن الخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور‏.‏ وأما من رأى أنها ترث في العدة، فلأن العدة عنده من بعض أحكام الزوجية، وكأنه شبهها بالمطلقة الرجعية، وروي هذا القول عن عمر وعائشة‏.‏ وأما من اشترط في توريثها ما لم تتزوج فإنه لحظ في ذلك إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين، ولكون التهمة هي العلة عند الذين أوجبوا الميراث‏.‏

واختلفوا إذا طلبت هي الطلاق أو ملكها أمرها الزوج فطلقت نفسها، فقال أبو حنيفة‏:‏ لا ترث أصلا؛ وفرق الأوزاعي بين التمليك والطلاق فقال‏:‏ ليس لها ميراث في التمليك ولها في الطلاق وسوى مالك في ذلك كله حتى لقد قال‏:‏ إن ماتت لا يرثها وترثه هي إن مات، وهذا مخالف للأصول جدا‏.‏

 الباب الثالث فيمن يتعلق به الطلاق من النساء ومن لا يتعلق‏.‏

-وأما من يقع طلاقه من النساء، فإنهم اتفقوا على أن الطلاق يقع على النساء اللاتي في عصمة أزواجهن، أو قبل أن تنقضي عددهن في الطلاق الرجعي، وأنه لا يقع على الأجنبيات‏:‏ أعني الطلاق المعلق‏.‏ وأما تعليق الطلاق على الأجنبيات بشرط التزويج مثل أن يقول‏:‏ إن نكحت فلانة فهي طالق، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب‏:‏ قول إن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وداود وجماعة؛ وقول إنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة وقول إنه إن عم جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، أعني مثل أن يقول‏:‏ كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق، وكذلك في وقت كذا، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن‏.‏ وسبب الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما بالزمان على الطلاق أم ليس ذلك من شرطه‏؟‏ فمن قال هو من شرطه قال‏:‏ لا يتعلق الطلاق بالأجنبية؛ ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال‏:‏ يقع بالأجنبية‏.‏ وأما الفرق بين التعميم والتخصيص فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا عمم فأوجبنا عليه التعميم لم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتا به وحرجا، وكأنه من باب نذر المعصية؛ وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق؛ واحتج الشافعي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا طلاق إلا من بعد نكاح‏"‏ وفي رواية أخرى ‏"‏لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك‏"‏ وثبت ذلك عن علي ومعاذ وجابر ابن عبد الله وابن عباس وعائشة؛ وروي مثل قول أبي حنيفة عن عمر وابن مسعود، وضعف قوم الرواية بذلك عن عمر رضي الله عنهم‏.‏

 ‏(‏الجملة الثالثة‏:‏ في الرجعة بعد الطلاق‏)‏

-ولما كان الطلاق على ضربين‏:‏ بائن، ورجعي، وكانت أحكام الرجعة بعد الطلاق البائن غير أحكام الرجعة بعد الطلاق الرجعي وجب أن يكون في هذا الجنس بابان‏:‏ الباب الأول‏:‏ في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي‏.‏ الباب الثاني‏:‏ في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن‏.‏

 الباب الأول في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي‏.‏

-وأجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها لقوله تعالى ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك‏}‏ وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له، واتفقوا على أنها تكون بالقول والإشهاد‏.‏ واختلفوا هل الإشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط‏؟‏ وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطء‏؟‏ فأما الإشهاد فذهب مالك إلى أنه مستحب، وذهب الشافعي إلى أنه واجب‏.‏ وسبب الخلاف معارضة القياس للظاهر، وذلك أن ظاهر قوله تعالى ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ يقتضي الوجوب، وتشبيه هذا الحق بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان يقتضي أن لا يجب الإشهاد، فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب‏.‏ وأما اختلافهم فيما تكون به الرجعة، فإن قوما قالوا‏:‏ لا تكون الرجعة إلا بالقول فقط، وبه قال الشافعي؛ وقوم قالوا‏:‏ تكون رجعتها بالوطء، وهؤلاء انقسموا إلى قسمين‏:‏ فقال قوم‏:‏ لا تصح الرجعة بالوطء إلا إذا نوى بذلك الرجعة، لأن الفعل عنده يتنزل منزلة القول مع النية، وهو قول مالك؛ وأما أبو حنيفة فأجاز الرجعة بالوطء إذا نوى بذلك الرجعة ودون النية؛ فأما الشافعي فقاس الرجعة على النكاح وقال‏:‏ قد أمر الله بالإشهاد، ولا يكون الإشهاد إلا على القول‏.‏ وأما سبب الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة فإن أبا حنيفة يرى أن الرجعية محللة للوطء عنده قياسا على المولى منها وعلى المظاهرة ولأن الملك لم ينفصل عنده، ولذلك كان التوارث بينهما؛ وعند مالك أن وطء الرجعية حرام حتى يرتجعها، فلابد عنده من النية، فهذا هو اختلافهم في شروط صحة الرجعة‏.‏ واختلفوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة، فقال مالك‏:‏ لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما‏.‏ وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل، وبه قال الثوري وأبو يوسف والأوزاعي، وكلهم قالوا‏:‏ لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل‏.‏ واختلفوا في هذا الباب في الرجل يطلق زوجته طلقة رجعية وهو غائب ثم يراجعها فيبلغها الطلاق ولا تبلغها الرجعة فتتزوج إذا انقضت عدتها، فذهب مالك إلى أنها للذي عقد عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل، هذا قوله في الموطأ، وبه قال الأوزاعي والليث‏.‏ وروى عنه ابن القاسم أنه رجع عن القول الأول، وأنه قال‏:‏ الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني، وبالقول الأول قال المدنيون من أصحابه قالوا‏:‏ ولم يرجع عنه لأنه أثبته في موطئه إلى يوم مات وهو يقرأ عليه، وهو قول عمر بن الخطاب ورواه عنه مالك في الموطأ؛ وأما الشافعي والكوفيون وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا‏:‏ زوجها الأول الذي ارتجعها أحق بها دخل بها الثاني أو لم يدخل، وبه قال داود وأبو ثور، وهو مروي عن علي وهو الأبين، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة‏:‏ إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته أو أن يرجع عليها بما كان أصدقها، وحجة مالك في الرواية الأولى ما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها رجعتها حتى تحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء ولكنها لمن تزوجها، وقد قيل إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب فقط؛ وحجة الفريق الأول أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة، بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج، وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدا، فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول، وهو الأظهر إن شاء الله، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما‏"‏‏.‏